أنا شابة في الثالثة والعشرين من عمري، ارتبطت وأنا في السادسة عشرة
عاطفياً بشاب يكبرني بعشر سنوات، وخلال هذا الارتباط سافر إلى فرنسا في
بعثة للحصول على الدكتوراه في القانون التجاري، ورجع بعد ثلاث سنوات
ظافراً بها ومقيماً على الحب الذي تجسم بيننا فازداد فخري به واعتزازي
بتدينه وثقافته الراقية وإحساسه المرهف، ثم تمت خطبتنا وأنا طالبة بالسنة
الأولى بكلية الاقتصاد المنزلي، واستمرت الخطبة عامين توثقت
خلالها روابطنا أكثر فأكثر ثم تـم عقد القران في حفلة جميلة، وبعدها
بأربعة أشهر توجنا قصة الحب الطويلة بالزفاف في حفلة أخرى نالت إعجاب
الجميع.. وبدأنا حياتنا الزوجية معاً وأنا في الحادية والعشرين من عمري،
ومن اليوم الأول أدركت أنني قد تزوجت من رجل تتمناه كل فتاة في مثل سني،
وعاهدت نفسي على أن أهبه كل ما في طاقتي من حب وحنان، ودعوت الله أن
يعينني على ذلك وأن يشملنا برعايته ليكون بيتنا قائماً دائماً على الود
والتفاهم.. والحق أني قد شعرت بأنني أعيش في حلم جميل من ا ليوم الأول
الذي تفتح فيه وعيي للحياة، فلقد حظيت دائماً بحب أبي وأمي وأخوتي، ونشأت
في بيت يسوده الوئام.. وتتعاون فيه أمي مع أبي في كل شيء حتى في مجال
عملهما الذي يتشاركان فيه.. فكان تساؤلي دائماً هو: هل تستمر الحياة وردية
اللون هكذا، كما بدت لي طوال السنوات الماضية؟ ولم يتأخر الجواب عني
كثيراً فبعد ستة أيام من الزفاف الجميل والسعادة الصافية.. ارتفعت درجة
حرارتي وزرت الطبيب فشخص حالتي بأنها التهاب في المثانة ووصف لي العلاج
وفي اليوم السابع صحوت من نومي وأنا أشعر بتنميل غريب في قدمي الاثنتين..
فظننته في البداية تنميلاً عادياً كالذي نشعر به حين نضغط لبعض الوقت على
إحدى القدمين.. فينحبس الدم فيها، ونفقد الشعور بها جزئياً إلى أن تنشط
الدورة الدموية فيها مرة أخرى، لكن التنميل استمر وازداد.. وحاولت النهوض
فشعرت بعدم قدرتي على الحركة.. واتصلت تليفونياً بأمي لأشكو لها ما أشعر
به فهرولت إليّ ومعها والدة إحدى صديقاتي وهي طبيبة ففحصتني باهتمام ثم
ظهرت عليها علامات الانزعاج ووجدتها تطلب من أبي وأمي وزوجي نقلي على
الفور إلى مستشفى عين شمس التخصصي، لأنها اكتشفت إصابتي بفيروس في النخاع
الشوكي، وهو مرض إذا أصاب الجسم فإنه يبدأ بفقد الإحساس في الأطراف السفلى
ثم يتصاعد فيه إلى أن يصل إلى المخ..، ونتائجه تتراوح بنسب متكافئة بين
الشلل التام لكل الجسم أو الموت أو الشفاء منه بعد عناء طويل وعلاج مضن.
وتـم نقلي على الفور إلى المستشفى وخلال وجودي في حجرة الاستقبال
بالمستشفى في انتظار نقلي إلى حجرتي اقترب مني زوجي وأنا في شدة الخوف
والاضطراب.. ثم همس في أذني ببضع كلمات يحثني فيها على الصبر والتحمل..
والشجاعة، ويقول لي إن هذه هي أول شدة تواجهنا معاً، وسوف نصمد لها
ونجتازها بالصبر والتحمل والإيمان.. فهدأت نفسي بعض الشيء، وامتثلت
لأقداري وأمضيت الليلة الثامنة لي بعد الزفاف في المستشفى.. وليس في عش
الزوجية.. وبدأ علاجي على الفور بالكورتيزون ولمدة 5 أيام متصلة على مدى
24 ساعة..، وأمي تبكي وأبي ينطق وجهه بالألم.. وإخوتي مضطربون.. وزوجي
يحاول التماسك أمامي ولا يكف عن تشجيعي وشد أزري..، والأطباء يقولون لي أن
الاكتشاف المبكر لحقيقة المرض سوف يساعد بإذن الله على تحقيق نتائج طيبة
للعلاج. ومضت أيام المستشفى ثقيلة وطويلة.. وذات يوم وجدت أصبعاً في قدمي
اليمنى تتحرك فبكيت لأول مرة منذ داهمتني هذه المحنة.. ونبهت الطبيب إليه
فسعد بذلك جداً، وقال لي إن هذا دليل على وجود حياة بالعصب، وعلى أن
العلاج بالكورتيزون قد بدأ يؤتي أثره. وبالرغم من الإعياء الذي كنت أشعر
به من تأثير الأدوية المستمرة، فقد وجدت في نفسي رغبة قوية في الاستذكار
وأداء امتحان السنة الثالثة بكليتي، وحاول أبي وأمي إقناعي بالاعتذار عنه
فرفضت ذلك وقلت لهما إنني إذا كنت قد فقدت الإحساس بقدمي وساقي فإني لم
أفقد الإحساس بيدي وذراعي ومازال عقلي بخير.. وأيدني زوجي في هذا القرار،
وبدأت وأنا في المستشفى في الاستعداد للامتحان وراح زملائي وزميلاتي
بالكلية يمدونني بكل ما أحتاج إليه من كتب ومذكرات.. وخلال وجودي
بالمستشفى جاء عيد الأضحى.. وشاهدت في التليفزيون الحجيج وهم يطوفون
بالكعبة المشرفة.. فتذكرت يوم طفت حولها على قدمي مثلهم.. وكيف قبلت فيها
الحجر الأسعد.. فانهمرت دموعي بغزارة وبكيت طويلاً، وراح من حولي يحاولون
التخفيف عني.. ثم جاء يوم خروجي من المستشفى.. وبالرغم من أنني غادرته فوق
كرسي متحرك إلا أنني كنت سعيدة لأنني سأرجع إلى بيتي ومملكتي التي لم أهنأ
بها سوى أسبوع واحد..، ورغبت أمي أن أنتقل من المستشفى إلى بيت أسرتي لكي
ترعاني وتمرضني وتشرف على علاجي الذي سيطول شهوراً وشهوراً إلى أن يأذن
الله لي بالشفاء.. وتمسكت برغبتها هذه لسبب آخر إضافي هو أن فقدي الإحساس
بالنصف السفلي من جسمي، قد أفقدني القدرة على التحكم في الإخراج فرغبت أمي
ألا يرى مني زوجي الشاب ما قد أخجل أنا من أن يراه أو ما يتناقض مع صورة
العروس الجميلة التي تزوجها.. لكني رغم تقديري لدوافع أمي لم أشاركها
رأيها هذا.. وصممت على أن أغادر المستشفى إلى بيتي وليس إلى بيت أسرتي،
وقلت لأمي إنني أريد أن أرى كيف سيقف زوجي إلى جواري في هذه المحنة وهل
سيقبلني في حالة المرض بنفس الروح التي يتقبلني بها في حالة الصحة أم
لا..، وهل سيصمد لهذه المحنة أم سيتخلى عني فيها؟ ورجعت إلى بيتي الصغير
عاجزة عن المشي، ووجهي منتفخ وتنتشر فيه البثور من أثر الأدوية، وتقبلت
حياتي الجديدة بشجاعة ورضا وتمسكت بالأمل في الشفاء الكامل والعودة إلى
الحركة والنشاط ذات يوم قريب أو بعيد ووجدت في زوجي كل ما تمنيته فيه من
حب ومساندة ورعاية وحنان. واستكملت العلاج في البيت وبذل زوجي وأمي وأبي
كل ما في وسعهم للعناية بي، أما أختي التي تصغرني بست سنوات فقد راحت
تحملني من مكان لمكان وكأنها أختي الكبرى، وأمي وليست الأخت الصغيرة..
وتقدمت إلى الامتحان وأنا على الكرسي المتحرك ونجحت فيه بحمد الله
وتوفيقه.. ثم بدأت لأول مرة في المشي قليلاً بمساعدة المشاية داخل
البيت..، وتزايد الأمل في الشفاء التام في نفوسنا وأشرقت البهجة علينا..
فإذا بي أصاب فجأة بمرض جلدي في كتفي راح يسبب لي آلاماً رهيبة ضاعفت من
معاناتي.. وتبين من الفحص أنه مرض ينتج عن فيروس كامن في الجسم لكنه لا
ينشط إلا إذا ضعفت مناعة الجسم ويكون ظهوره على شكل بقعة في الجلد يشعر
الإنسان فيها بشكشكة إبر حادة مؤلمة ولا تتوقف ولا علاج لها إلا
بالمسكنات.. وتحملت هذه الآلام الرهيبة الجديدة واستعنت عليها بذكر الله..
والاستنجاد به أن يخففها عني ويشفيني من كل أمراضي.. ومضت الأيام وأنا
أعاني من آلام وأحزان لا قبل لي بها.. وراح من حولي يتساءلون: لماذا يحدث
لي كل ذلك.. ولجأوا إلى المشايخ يستفسرونهم في ذلك، وفي اليوم الذي اشتد
بي فيه الحزن على نفسي أراد الله سبحانه وتعالى أن يذكرني بنعمته عليّ
ويخفف عني أحزاني.. فإذا بي أكتشف أنني حامل! وإذا بمشاعري تتضارب بين
السعادة بهذا الحمل والقلق بشأنه، وكان مبرر القلق عندي هو أنني فاقدة
الإحساس بنصفي الأسفل جزئياً.. فكيف سأشعر بما تشعر به الحامل خلال شهور
الحمل..، وهل ستؤثر أطنان الأدوية التي تناولتها على الجنين..، وهل سيجيء
إلى الحياة صحيحاً معافى أم متأثراً بسموم الدواء؟ أما والدتي فلقد اشتد
قلقها عليّ حين علمت بنبأ الحمل.. لأنه يتطلب التوقف عن تناول المسكنات
القوية التي تهدىء من آلام المرض الجلدي، فكيف سأتحمل هذه الآلام إذا
توقفت عن المسكنات..؟، وبعد تفكير قصير نصحتني أمي بالتخلص من الجنين لأني
لن أستطيع احتمال آلام المرض الجلدي ومتاعب الحمل مع آثار الأدوية التي
تناولتها.. ولأن الحمل سيؤثر على صحتي التي تعاني من آثار الأدوية.. كما
أن هناك شكاً قوياً في قدرتي على الولادة الطبيعية واحتمال آلامها.. لكني
تمسكت بجنيني بإصرار، وقلت لأمي إنني سأتوقف عن تناول المسكنات، وسوف
أتحمل آلام المرض الجلدي، ومتاعب الحمل صابرة، ولن أفرط في جنيني مهما كان
العناء.. وتوقفت بالفعل عن المسكنات، وعانيت الآلام الجلدية المبرحة.. حتى
كانت أمي تمزق من فوق كتفي بلوزتي وفساتيني لأنني لا أطيق ملمس أي شيء فوق
البقعة الجلدية المصابة..، ولمس زوجي معاناتي وآلامي فشعر بالندم
والمسؤولية عن هذا الحمل الذي ضاعف من عنائي.. فهل تعرف ماذا فعل بي هذا
الحمل الذي توجست منه أمي وأبي وزوجي إشفاقاً عليّ من متاعبه، ومما قد
يحمله لي المستقبل من جنين ضعيف أو مشوه بسبب الأدوية؟ لقد تحسنت قدرتي
على الحركة والمشي خلال شهور الحمل بدرجة ملحوظة.. ورجعنا إلى الأطباء في
ذلك فقالوا لنا إن سبب هذا التحسن هو الحمل لأنه يساعد على الشفاء من
فيروس النخاع الشوكي حتى أن الأطباء في أميركا يعالجونه بدواء مستخلص من
مشيمة الجنين. ولقد غرس الله في أحشائي هذا الدواء الطبيعي من حيث لا أدري
ولا أحتسب فتحسنت قدرتي على المشي
والحركة، بدرجة كبيرة ولم يبق إلا المثابرة على العلاج الطبيعي ليضطرد
التحسن والتقدم! ثم توالت عليّ بعد ذلك جوائز السماء للصابرين التي تتحدث
عنها كثيراً.. فخفت آلام المرض الجلدي تدريجياً، وشعرت بمقدمات الحمل كأي
أنثى عادية، وتمت الولادة بطريقة طبيعية تماماً، كما تلد أي امرأة أخرى
ورزقني الله بطفلة صحيحة الجسم وطبيعية جميلة وكثيرة الحركة، وأمضيت ثلاثة
أشهر في بيت أسرتي أعانتني خلالها أمي في رعاية طفلتي ثم رجعت إلى بيتي
فوجدت في زوجي خير معين لي على العناية بها، واستذكرت خلال ذلك دروس العام
الأخير لي بالكلية، وتقدمت للامتحان على كرسي متحرك أيضاً، وحصلت على
شهادتي بتقدير جيد، فأي نعم وأي جوائز أكبر مما غمرني به الله من فضله
ونعمه؟ لقد مر عامان الآن يا سيدي على بداية هذه المحنة.. ومازلت أواصل
العلاج الطبيعي ولقد أصبحت بفضله أحسن حالاً.. فإذا تكاسلت عنه يوماً
واحداً ذكرتني أمي بما قاله الأطباء من أن ما حدث لي يعد معجزة إلهية بكل
معنىالكلمة لأن من تعرضوا لما تعرضت له كان أقصى أملهم هو أن يستطيعوا
المشي ذات يوم بمساعدة العكاز أما أنا فأمشي بصورة جيدة إلى حد ما، وقابلة
للتحسن أكثر كلما ثابرت على العلاج الطبيعي وصبرت عليه.. وأنا أثابر عليه
بالفعل ولا أكل منه.. إن لم يكن من أجلي فمن أجل طفلتي التي بلغت شهرها
الثامن عشر منذ أيام.. ومن أجل من يحبونني ويرجون لي الشفاء التام من
أفراد أسرتي كلهم.. أما زوجي فأي كلمات أستطيع أن أقولها لكي أفيه حقه من
الشكر والثناء.. لقد اجتزنا المحنة معاً، كما وعدني في اليوم الأول من
المرض، ولم يتخل عني لحظة واحدة خلالها.. ولم تتغير مشاعره نحوي وهو يراني
في حال تتناقض مع صورة العروس الشابة في مخيلته، ولم يأنف من مساعدتي فيما
قد يأنف البعض منه أو يخجلون، فماذا أقول له وعنه.. وماذا أقول عن أبي
وأمي وأخوتي وكل أحبائي، سوى أن أدعو الله لهم جميعاً أن يمتعهم بصحتهم
جميعاً ويمن عليهم بالسعادة وكل جوائز السماء.. إنني وإن كنت لم أبلغ بعد
مرحلة الشفاء التام إلا أنني على يقين من أن الله سبحانه وتعالى سينعم علي
به مهما طال الانتظار كما أنعم على من قبلي بالنجاة من مضاعفات المرض..
وباستعادة القدرة نسبياً على المشي وكما أنعم عليّ بطفلتي وبحب زوجي وأمي
وأبي وأخوتي وأحبائي.. ولقد كتبت لك رسالتي هذه لأسدد بعض ديني لهم
جميعاً، ولأرجو كل من يواجه مثل هذه المحنة المرضية أن يتقبل أقداره بصبر
ورضا ويتمسك بالأمل في الله سبحانه وتعالى.. أن يهبه الشفاء وينعم عليه
باستعادة الصحة..، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جريدة الأهرام