العدد الرابع والعشرون - تموز
الرواقية:
فلسفة عالميةد. عبود عبود
السبت 14 تموز (يوليو) 2007.
نشرت مجلة
الكفاح العربي في عددها 3886 الصادر يوم الاثنين الموافق فيه 19 شباط
2007،
حواراً أجراه حسين نصرالله مع الدكتور أديب صعب وجعلت له العنوان التالي:
أديب
صعب: مآخذي على مالك وسعاده وحاوي. طبعاً، قصد الكاتب شارل مالك (وهو
تلميذه)
وأنطون سعاده (وهو تلميذه) والشاعر خليل حاوي. ما يهمنا هو ما دبّجه بيراعه
حول
أنطون سعاده. فماذا قال؟ قال: "أما أنطون سعاده الذي وجدت فيه أعظم
النهضويين لأنه
لم يكتفِ بتفسير مجتمعه في العمق بل سعى إلى تغييره نحو الأفضل، فقد أخذت
عليه،
مثلاً، إشارته إلى ما سمّاه "صوفية هدّامة" عند ميخائيل نعيمة، علماً أن
هذه
"الصوفية" ما هي إلا طبعة جديدة موسّعة وعصرية للفلسفة الرواقية التي دعا
سعاده
نفسه إلى إحيائها واستيحائها لأنها فلسفة عظيمة في رأيه، ولأن مؤسسها كان
زينون
القبرصي الفينيقي". ويتابع قائلاً: "هذا قليل من كثير، إذ يزخر الكتاب بهذه
المواقف
النقدية غير التقليدية. إن نظرتي إلى النقد تنسجم مع موقف الفيلسوف ألفرد
نورث
وايتهد في قوله بأن "نقدنا لأي نظرية لا يقوم على سؤالنا عما إذا كانت
صحيحة أو
مخطئة. لكنه يقوم بالأحرى على كشفنا نطاق عمل هذه النظرية وإخفاقها خارج
هذا
النطاق".
نبدأ بالقول إن
كلام الدكتور صعب غير صحيح جملة وتفصيلاً. وهذا شرحنا:
زينون الرواقي ليس
صوفياً ولم يضع فلسفة صوفية من قريب أو بعيد. فالمتصوّف ظاهرة إسلامية
بامتياز. وما
نعرفه عن التصوف قبل الاسلام نلقاه عند أفلوطين
plotinus
(204 - 269) وعند إكهارت Meister
Eckhart (1250 -
1329). غير
أن هذين المتصوفين لم يبلغا مستوى التصوّف الإسلامي الذي بلغ حدّ القطع
المطلق
للعلاقات بغية الاتحاد بالله أو الحلول في الله ولغة الشطح.فقول الحلاّج
بلغة
الشعر:
"أنا من أهوى ومن
أهوى أنا نحن روحان حَلَلْنا بدنا"
وقول آخر: "سبحانك
سبحاني". يسميان شطحاً، وهو لم يسبق له مثيل في تاريخ الفلسفة والدين.
والشطح، كما
يصفه أبو حامد الغزالي في
إحيائه، هو "كلمات غير مفهومة لها ظواهر
رائعة
وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل". ويصفه السراج في
لمعه بأنه
"عبارة
مستغربة في وصف وَجْدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته". ويضيف قائلاً:
"والشطحة
ظاهرها مستشنع لكن باطنها صحيح مستقيم". إذن، ماذا كان زينون الرواقي؟
قبل أن نجيب على
هذا السؤال، لنقدم فكرة عن كل من أفلوطين
Plotinus
وإكهارت Eckhart.
كان أفلوطين
Plotinus
تلميذاً لأمونيوس سكّاس Amonius
Saccas الذي عاش في
النصف
الأول من القرن الثالث بعد الميلاد. وكان أنجب تلاميذه. وكان عصره عصر
اضطرابات في
الإمبراطورية الرومانية ومن جميع النواحي. وسكّاس
Saccas
هو مؤسس ما صار يعرف في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة
Neo-Platonism.
[1] وقد ولد مسيحياً لكنّه تحوّل إلى الإيمان الهلّيني فيما بعد.
[2] وعاش في مدينة الاسكندرية، واعتبر الفيلسوف الأول الذي حاول التوفيق ما بين
أفلاطون
وأرسطو.
[3]ولد أفلوطين حوالي
عام 204 وبعد أن درس على يد سكّاس
Saccas
رحل إلى روما في عام 244. ويخبرنا تلميذه وكاتب سيرة حياته فرفوريوس
Porphyry
أنه كان متصوِّفاً دينياً وأنه بلغ حالة السعادة القصوى
ecstacy
أربع مرات إتحاداً بالله. ويذكر، فيما يذكر من أقواله (شطحاته)، قوله: "على
الآلهة
أن تأتي إليّ وليس عليّ أن أذهب اليهم" عانياً أن مكانها ليس في المعابد بل
في قلب
الإنسان.
[4] توفي أفلوطين Plotinus
في روما عام 270 بعد الميلاد، عن عمر ناهز الستة والستين.
وتجدر الإشارة إلى
أن معلوماتنا عنه سواء لجهة أخباره أو
فلسفته فقد وصلتنا
عن طريق
تلميذه فرفوريوس Porphyry
الذي دوّنها وجمعها في ستة أجزاء كل جزء منها تسع رسائل، لذا عرف مجموعها
بالتساعيّات.
[5]أما جوهر فلسفته
فهو في نظرية الفيض emanation.
وملخّصها أن الكون كله صادر عن مصدر واحد يسميه الواحد
The One.
[6] ومنه انبثق كل شيء على التوالي: العقل الكوني المقدس كان أول فيض للواحد ثم
كان
الروح الكوني أول فيض للعقل.
[7] وتلاه العالم الفيزيائي، وهكذا.
[8] كما تجدر الإشارة إلى أن الفارابي شرح هذه النظرية شرحاً وافياً في مسعاه
الخاطئ
للتوفيق ما بين أفلاطون وأرسطو، في حين أنه كان، وبلا دراية منه، موفقاً
بين
أفلوطين وأرسطو.
[9]أما إكهارت
Meister Eckhart
فيذكر سكورمان Reiner
Schurmann،
الذي ترجم مواعظه عن الألمانية، أن الفكرة المركزية للمواعظ هي فكرة التحرر
أو
الانعتاق.
[10]ويتكلم إكهارت
Eckhart
عن الاتحاد بيسوع وعن شرطه الذي هو المماثلة لأن الحكماء (القديس توما
الأكويني
وقبله أرسطو) علّموا أن "الشبيه يلاقي الشبيه"، والسبيل إلى التشبه بالربّ
هو قطع
العلاقات.
[11].
ومما يقول أيضاً ما يلي: "كينونة الله هي كينونتي، والكينونة الأصلية لله
هي
كينونتي الأصلية".
[12] ويضيف قائلاً: "وخارج الله عدم، وليس إلاّ العدم".
[13]واضح مما تقدم أن
المتصوفين الوحيدين اللذين جاء على ذكرهما تاريخ الفلسفة قبل ظهور الإسلام
والتصوف
الإسلامي كانا أفلوطين Plotinus
واكهارت Eckhart
وليس زينون الرواقي.
نعود لسؤالنا: من هو زينون
الرواقي؟
نجيب فنقول: كان
المؤسس لعلم الأخلاق. المؤسس للمنطق الحديث الذي يعرف بالمنطق الرمزي أو
منطق
الرياضيات. وكيف هذا؟ نجيب فنشرح بما يلي:
*الأخلاق
الرواقية:
نبدأ بشهادة
الفيلسوف الأميركي المعاصر ألان دوناغان
Alan Donagan
الذي أكّد بالحرف الواحد "أن الرواقيين، وليس أرسطو ولا أفلاطون، كان لهم
الفضل
بوضع أول تعريف واضح ومعقول للأخلاق بمبدأهم العالمي".
[14] فمن هو زينون الرواقي وما هو المبدأ العالمي الذي وضعه زينون الرواقي وحمله
تلاميذه
اللاحقون فيما بعد (وهل كان الفيلسوف الألماني الكبير كانط
Immanuel Kant
أحدهم في القرن الثامن عشر)؟
[15]زينون الرواقي فيلسوف عاش
في القرن
الرابع والقرن الثالث قبل الميلاد
(335 - 264 ق.م.)، بعد فلاسفة
اليونان
المعروفين: سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. وهو من كتيوم
Citiumفي قبرص وأصل عائلته من فينيقيا، من صور من لبنان
القديم. بعد
أن استقرت عائلته في قبرص، ذهب إلى أثينا ليعلّم شبانها حكمته الجديدة. وقد
عرفت
تلك الحكمة، في تاريخ الفلسفة، بالفلسفة الرواقية ذلك لأنه كان يعلمها
لتلاميذه في
رواق (
stoa باللغة اليونانية القديمة). والرواق، زمانئذٍ، كان عبارة عن ممرّ مسقوف
ومحاط بصفين
متوازيين من الأعمدة.
في أثينا، وبعد اطلاعه على
مبادئ
وتعاليم فلاسفة اليونان الأخلاقية وكشفه عن عيوبها ومحدوديّتها وانحصارها
في نطاق
المدينة
polis،
وضع زينون فلسفته الأخلاقية الجديدة على أساس جديد هو مبدأ العالميّة
Cosmopolis.
من الوجهة اللغويّة لفظة
Cosmopolis مركّبة من لفظين يونانيين قديمين ألا وهما
Cosmos
ومعناها الكون و
polisومعناها
المدينة فيكون حاصل جمعهما في لفظ جديد هو: المدينة الكونيّة أو العالم كله
باعتباره مدينة واحدة.
طبعاً، لم يكن زينون جاهلاً
لحقيقة
أن العالم ليس مدينة واحدة من الوجهة السياسيّة ولا من الوجهة الاقتصادية
وغيرهما.
لكنه قصد بالمدينة الكونيّة الناحية الأخلاقية. كأني به قائلاً: أيها البشر
بالرغم
من تفاوتكم واختلافاتكم السياسيّة وخلافها عاملوا بعضكم بعضاً سواء أكنتم
مدناً أو
جماعات أو شعوباً أو أفراداً كما لو أنكم مواطنون في مدينة كونية أخلاقية
واحدة، إذ
لا يليق بالمواطن أن لا يحترم ويحبّ ويعامل بالحسنى أخاه المواطن.
في عقيدة زينون أن نزاعات
البشر
منطلقها الانفعالات passions،
فإذا كان الإنسان مدفوعاً بانفعال عنصري فهو لا محالة مفرّق بين عنصره
والعناصر أو
السلالات الأخرى. وإذا كان محكوماً بانفعال قبلي، فهو معادٍ للقبائل
الأخرى، وإذا
كان مشحوناً بانفعال خصوصي فهو عدوّ الآخرين مطلقاً عليهم نيران فرديّته
وأنانيّته،
وقس على ذلك. من هنا قول زينون، إن الحكيم الحكيم هو القادر على كبح
انفعالاته
ومنعها قبل سلوكه، إنه apathos
أي ضابط لانفعالاته وليس pathos،
أي ليس انفعالياً.
غير أن بلوغ ذلك المستوى
العالي من
القدرة على التحكم بعواطفنا وانفعالاتنا الهوجاء غير ممكن بدون الارتقاء
بوجودنا
إلى مستوى آخر من النظر إلى الأمور ألا وهو المستوى العقلي. فالعقل في
الإنسان
الحاكم الوحيد القادر على لجم الانفعالات. العقل هو السائق الوحيد القادر
على قيادة
سيّارة جسدنا الذي يعجّ ويضج بوحوش الانفعالات، وهدايتها وتوجيهها سواء
السبيل.
من شرفة العقل نرى البشر
أخوة تماماً
كما قال زينون الرواقي: كل البشر أخوة
All humans are fellow -
humans.
وهذا معناه: عليك أيها الإنسان، إذا كنت عاقلاً، أن تحب جارك وتحترم الآخر.
أربعة
مائة سنة قبل ميلاد المسيح، وجد فيلسوف اسمه زينون ينطق بحكمةٍ أكّدتها
المسيحية،
بعده، ألا وهي أحبّوا بعضكم بعضاً. وكذلك الإسلام بعد المسيحية.
والجار في قاموس زينون، ليس
الجار
الجغرافي - المحلي حصراً ولا الجار السياسي ولا الجار اللغوي ولا الجار
العنصري أو
الطبقي أو الطائفي إنه الجار الأخلاقي - العقلي. إنه أي إنسان وكل إنسان.
لذلك، نقول، إن فكرة الحب
العالمي
Universal Love
هي في صميم فلسفة زينون الأخلاقية الجديدة التي شكّلت ثورة في تاريخ
الفلسفة عموماً
وفلسفة الأخلاق على وجه الخصوص والتي وضعت الأخلاق على الأساس الذي بدونه
لا تكون
الأخلاق أخلاقاً ألا وهو مبدأ الكونية أو العالمية الذي أتينا على ذكره في
مطلع
بحثنا.
أشهر
تلامذة زينون بعد زينون تابع تلاميذه
الكثر فلسفته
وكان من أشهرهم اثنان: عبدٌ وإمبراطور. أما العبد فكان اسمه
Epictetus
[16] الذي وضع كتاب:
Discourses
وجاء فيه، مما
يتصل
باتجاه بحثنا، ما يلي:
"ألا تعرف (أيها الإنسان)
أنه كما أن
القدم لا تعود قدماً إذا ما فصلت عن الجسد، أنت كذلك لا تبقى إنساناً إذا
انفصلت عن
الآخرين".
[17] معنى ذلك أن الإنسان اجتماعي وعلاقته بالمجتمع الإنساني علاقة لا تنفك،
إنها
كالعلاقة العضوية.
وأما الإمبراطور الروماني
Marcus Aurelius
فقد قال: "كل البشر أخوة، كل البشر مواطنون، حتى المجرم هو أخي". ومما سطره
يراعه
في كتابه المشهور:
Meditations نذكر ما يلي:
"لست أقدر أن أكون غاضباً
مع أخي ولا
أن أكون مسيئاً إليه، لأننا خُلقنا لنتعاون مثل يديْ الإنسان ومثل قدميه أو
جفنيه
أو مثل فكّيْ أسنانه. إن عرقلة أحدهما للآخر هو ضد قانون الطبيعة".
[18]هذا الكلام عن "قانون
الطبيعة" له
أصله عند زينون الرواقي. وشرح معناه يقتضي منا العودة إلى معنى "القانون"
ومعنى
"الطبيعة" في قاموس الفلسفة في القرن الرابع قبل الميلاد.
لنبدأ بلفظ "الطبيعة"
لنقول: إن
مفهومه القديم يختلف أيّما اختلاف عن مفهومنا له في هذا العصر، عصر العلوم
والتكنولوجيا. فقد استعمل الأقدمون من الفلاسفة هذا اللفظ للإفادة عن فكرة
الوظيفة
function
أو الماهيّة essence
أو الخاصة المميّزة differentia
للشيء. وعندما كانوا يقولون، عن اعتقادٍ، بأن لكل شيء طبيعة كانوا يفهمون
من ذلك
بأن لكل شيءٍ وظيفة أو ماهيّة أو صفة مميّزة خاصة بذلك الشيء.
على هذا الأساس يكون للنهر
طبيعة هي
في تدفقه وجريانه وللريح طبيعة في هبوبها وللسكين طبيعة القطع، الخ. أما
الإنسان
فطبيعته العقل أو التفكير. Man
is a rational animal.
هذا
لجهة مفهوم القدماء "للطبيعة".
لجهة مفهومهم "للقانون"،
نذكر، انهم
رأوا القانون في فكرة الثبات
constancy أو
الانتظام
uniformity
أو عدم التغيّر.
بالنسبة للإنسان، قالوا، إن
الانفعالات، باعتبارها قُلَّباً حُوَّلاً وليس لها ثبات لا يمكن اعتبارها
قانوناً
بأي شكل. الثابت الوحيد في الإنسان هو العقل. لذلك اعتقدوا بأن العقل هو
طبيعة
الإنسان وقانونه أو بكلمة أخرى، العقل هو قانون الطبيعة في الإنسان.
من هنا تعليم زينون وأتباعه
المفيد
بأن الحكيم هو الذي يكون منسجماً مع قانون الطبيعة الإنساني الذي هو العقل.
*نظرية التلوّث بالآراء
الخاطئة:
ولكي يقدر العقل على الفعل
في السلوك
الأخلاقي متحرراً من تحرّشات وبلبلات الانفعالات تحدث الفلاسفة الرواقون عن
نقاء
الروح بالإضافة إلى نقاء الجسد.
فيما يختص بنقاء الروح
بخاصةٍ، انتهى
تحليلهم لأسباب التلّوث الروحي بما صار يعرف بنظريتهم في الحكم
judgment.
وقصدوا بذلك، أن الآراء (أو الأحكام) الخاطئة التي يصدرها الإنسان حول
الأشياء
الخارجيّة بأنها جيّدة أو غير جيّدة هي ذاتها ما يعكّر الروح. ولا يطهّر
الروح من
تلك الآراء إلاّ الاحتكام إلى العقل القادر وحده على التوجيه الصحيح
والإرشاد
المستقيم.
[19]
*اجتماعية الإنسان:على مستوى الأخلاق
الاجتماعية عرّف
الرواقيون وجود الإنسان بأنه وجود غائيّ اجتماعي
to be is to be For.
هذا ما يقوله Epictetus
بالحرف الواحد:
"من أجل الكلّ (المجتمع
الإنساني)
عليك أن تتحمّل المرض أحياناً وتغترب وتخاطر أحياناً أخرى وتفتقر وتموت قبل
الأوان
إذا اقتضى الأمر".
[20]في نفس الاتجاه، اتجاه حمل
المسؤولية
الاجتماعية بالاهتمام بالآخرين كاهتمام الإنسان بذاته، ومعاملتهم كمعاملة
الإنسان
ذاته، يكتب الإمبراطور ماركوس أوريليوس
Marcus Aurelius
ما يلي:
"هل تطالب العين تعويضاً
على قيامها
بوظيفة رؤية الأشياء أم القدم تطالب بنفعٍ على مَشْيها؟ ذلك لا يحصل من
أيٍّ منهما
لأنهما وجدتا لتلكماً الغايتين، وجودهما أن يفعلا ذلك. كذلك الإنسان عندما
يعامل
الناس بالحسنى ويعمل للمصلحة العامة، يكون محققاً وجوده ذاته".
[21]تجدر الملاحظة أن الرواقيين
يرون
المجتمع واقعاً طبيعياً وليس كياناً صنعته إرادات أفراد وفقاً لعقدٍ
اجتماعي
Social Contract
كما ظن بعض الفلاسفة الغربيين فيما بعد، من أمثال
Thomas Hobbes
و John Locke
و Jean-Jacque Rousseau.
المجتمع في عقيدة الرواقيين سابق للفرد وكل فرد يولد في مجتمع.
تأثير
الفكر الأخلاقي لزينون نتقدم الآن للكلام عن تأثير
الفلسفة
الرواقية الأخلاقية في القانون عموماً وفي القانون الروماني على وجه
الخصوص.
كنا قد جئنا على ذكر اعتناق
الإمبراطور الروماني Marcus
Aurelius للعقيدة
الأخلاقية
الرواقية. نجم عن هذا الحادث أثر تاريخي عظيم ألا وهو أن ذلك الإمبراطور
الذي آمن
بأن كل البشر أخوة منح المواطنيّة الرومانية لجميع رعايا الإمبراطورية
الممتدّة من
بلدان الشرق الأوسط واليونان إلى بلدان أوروبا الغربيّة. قبل ذلك لم يكن
يتمتع
بحقوق تلك المواطنية سوى أبناء رومة.
إن الشهرة التي يتمتع بها
التاريخ
الروماني في ميدان الحضارة الإنسانية مردّها القانون الروماني المساوي بين
البشر
والذي جوهره كان في فلسفة زينون كما ذكرنا.
والدستور الأميركي العصري
(بالإضافة
إلى دساتير بلدان أوروبا الغربية) منفعل بالقانون الروماني كما أراده
الإمبراطور
الرواقي أوريليوس. هذا لجهة القانون في بعض البلدان.
أما لجهة القانون بعامةٍ
والمؤسسات
القانونية عموماً فنحن في هذه الأيام نتكلم عن القانون الدولي
International Law
ومؤسسة "الأمم التحدة" وقبلها مؤسسة "عصبة الأمم". مثل هذه المؤسسات
العالمية، إن
هي، في نظرنا، إلا تطبيقاً قانونياً للفلسفة الرواقيّة العالمية. ولشرح
فكرتنا،
نذكر، أن الأخلاق Morality
اثنان: أخلاق تصدر من داخل الإنسان فمصدرها جوّاني
internal
حرّ، وأخلاق تحصل عن طريق الإكراه الخارجي
Coercive.
أخلاق الحرية هي أخلاق الفلسفة الرواقية وأخلاق الإنصياع للقوة الخارجية
(قوة
القانون ومؤسساته) هي ما نراه ونختبره في حياتنا عندما نطيع قوانين الدولة
ومؤسساتها الشرعية المتعدّدة المختلفة ومن ذلك أيضاً المنظمات الدولية
"وجمعية
الأمم المتحدة" U.N.
و"عصبة الأمم".
القانون الدولي يقضي، في
"جمعية
الأمم المتحدة"، على سبيل المثال، أن تعامل الدول بعضها بعضاً بلغة احترام
كل منها
لسيادة الأخرى وبلغة السلام لا العدوان.
من هنا قولنا بأن المنظمات
الدولية
المعاصرة التي لها قانون دولي، إن هي إلا تطبيقاً
قانونياً
legal application أو صورة
قانونية
لمبدأ الفلسفة الرواقية. هذا مع علمنا، من وجهة نظر عملية - تاريخية (لا
نظرية)
بعدم وجود مساواة حقيقيّة بين الدول الأعضاء في "الأمم المتحدة".
المنطق
الرواقي وأهميته يقول بنسون ميتسْ
Benson Mates
في مقدمة كتابه:
المنطق الرواقي
Stoic Logic،
كان من الممكن أن تنتهي مدة سيطرة المنطق الأرسطي في وقت مبكر، لو أن بعض
النصوص
القديمة تمّ درسها. ويعني بالنصوص القديمة كتابات الرواقيين، تلامذة زينون
الرواقي
من لبنان القديم الذي عاش في القرن الرابع ق.م.
ويستشهد ميتسْ
بفيلسوف المنطق البولوني البارز لوكاسييفِكْسْ
Lukasiewicx
الذي يؤكد أن الكثير من أفكار المنطق الحديث الرمزي موجودة أصولها في
كتابات
الرواقيين الأوائل. ويذكر أن المنطق الرواقي تميز عن المنطق الأرسطي بأنه
كان منطق
قضايا (جمل خبرية وشرطية) لا منطق حدود (كلمات)، وأنه وضع قوانين
للإستنباط. وفي
هذين الفرقين ماثل المنطق الحديث.
هذا
مَثَلٌ من قوانين الاستنباط الرواقية: وهذا يماثل قولنا اليوم:
إذا كان الأول،
إذن يكون الثاني ق إذن ل
الأول ق
إذن
الثاني إذن، ل
(Modus Ponens)
وتجدر الإشارة إلى
أن الرواقيين، قدموا المثل الواقعي التالي عن ذلك القانون:
إذا كان نهار، إذن
هناك ضوء
هذا نهار
إذن، هناك ضوء
[22]ويذكر الدكتور
محمد فهمي زيدان النقطتين الرواقيين التاليتين اللتين يعتبرهما بذور المنطق
الرمزي،
وهما: "استخدامهم للرموز، ونظرتهم إلى المنطق كنسق استنباطي". ويضيف، أن
أبحاثهم في
القضايا المركبة كانت أوفى من أبحاث الميغاريين. ثم يذكر الصور الاستدلالية
الخمس
التالية، التي وضعوها، والتي تماثل ما نجد منها في المنطق الحديث:
1-
إذا
كان
الأول، كان الثاني، لكن الأول. إذن الثاني (وقد ذكرناه أعلاه)
2-
إذا
كان
الأول، كان الثاني. لكن ليس الثاني. إذن ليس الثاني.
3-
ليس
الأول
والثاني معاً. لكن الأول. إذن ليس الثاني.
4-
إمّا
أن
يكون الأول أو الثاني. لكن الأول. إذن ليس الثاني.
5-
إمّا
أن
يكون الأول أو الثاني. لكن ليس الثاني. إذن الأول.
ويقول الدكتور
زيدان أن الرواقيين عرفوا الثوابت المنطقية، وسمّوها "روابط".
[23]واضح مما تقد أن
شتّان ما بين فلسفة زينون الرواقي وأقوال ميخائيل نعيمة مثل قوله: "إن
فرسخاً
مربعاً من الصين الخاملة يحوي من الجوهر أكثر من كل جزائر اليابان
الناهضة"، ومثل
ادعائه أن القوة هي في الأمم العاجزة... وأن الضعف هو في الأمم المستكثرة
من آلات
الحرب. ها هي الصين الشعبية، في أيامنا، تملك القنبلة الذريّة والتكنولوجيا
الحديثة
تردّ عليه.
[24]بقيت مسألة واحدة
لا بدّ من ذكرها ألا وهي موافقتنا على قول الدكتور صعب أنه وجد في أنطون
سعاده
"أعظم النهضويين لأنه لم يكتفِ بتفسير مجتمعه في العمق، بل سعى إلى تغييره
نحو
الأفضل". وفي هذا التصريح يتجلّى
إنصافه المتوقع.
الهوامش