الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين ، ومع أمهات المؤمنين ، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ومع الزوجة الثالثة السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما.
أيها الإخوة الكرام ... قد يسأل أحدكم : هذا الفارق الكبير في السن بين السيدة عائشة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ كيف تزوَّج النبي امرأةً في سن أمه ؟ ثم كيف تزوج امرأةً في سن ابنته ؟ الأمور التي لا يدلي الشرع فيها بحكمٍ ترجع إلى الأعراف .
فأنت إذا قلت : أنا أكلت اللحم . ماذا تقصد ؟ لحم الضأن أو لحم البقر ، لأنك إذا أكلت سمكاً تقول : أكلت سمكاً . فإذا إنسان حلف بالطلاق ألّا يأكل لحماً ، فهل بإمكانه أن يأكمل سمكاً؟ نعم بإمكانه ، مع أن السمك لحم ، لكن العرف هو أن اللحم هو لحم الضأن أو البقر والسمك شيءٌ آخر ، ففي الموضوعات التي لم يكن هناك حكمٌ شرعي يعود الأمر إلى العرف.
وهذا موضوع طويل في أصول الفقه ، بابٌ كبير ، فأحد المصادر التشريعية العرف فهو الذي يحكم القضايا التي ليس فيها حكمٌ شرعي .
لو أن في زواج الرسول صلى الله عليه وسلَّم من السيدة عائشة ، أيُّ مأخذٍ في أعراف العرب وقتها لأُخِذ على النبي صلى الله عليه وسلَّم هذا الزواج ، بل إن البيئة وقتها تسمح بأن تأخذ امرأةً في سن أمك ، وتسمح بأن تأخذ امرأةً في سن ابنتك ؛ ولكن السيدة عائشة لها دور كبير جداً في موضوع الفقه ..
فقال بعض العلماء : " إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها " . إن ربع الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها ، فامرأة النبي ، زوجة النبي ، أم المؤمنين لها دورٌ خطيرٌ جداً في الدعوة ؛ لأنها يمكن أن تختص بالنساء ، تعلمون أن النساء يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن ، وأفضل إنسانة تعبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، إذاً لها دورٌ في الدعوة .
ويقول العلماء أيضاً : " ما رأوا أحداً أعلم بمعاني القرآن وأحكام الحلال والحرام من السيدة عائشة ، وما رأى العلماء أحداً أعلم بالفرائض والطب والشعر والنسب من السيدة عائشة " . مع أنها صغيرة إلا أنها كانت شيئاً نادراً في الذكاء ، وشيئاً نادراً في الحفظ ، وشيئاً نادراً في الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً فليعلم القارئ حقاً ويطمئن أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلَّم قد اختارهنّ الله جلَّ جلاله له ، لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مستقبلاً .
فهذا الذي يفكر أن النبي تزوج زوجةً في سن ابنته ، أو امرأةً في سن أمه ، هذا لا يعرف من هو النبي ، فالنبي عليه الصلاة والسلام بقي مع السيدة خديجة وهي في سن أمه ربع قرنٍ ، وكان بإمكانه أن يتزوَّج أجمل فتيات مكة ، فهو بعيدٌ جداً عن هذا الذي يفكِّر فيه أعداء الإسلام .
* * *
أيها الإخوة الكرام ... هذه السيدة الجليلة ـ السيدة عائشة ـ روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ألفي حديث ومئتين وعشرة أحاديث ، وحفظت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبي .
إذاً من يقول : إن هناك فارقاً في السن . هذا الفارق في السن كان مألوفاً في عصر النبي ، ولو كان هناك مطعنٌ في هذا الموضوع لما سكت أعداء النبي ، ولجعلوا من هذه القضية قضيةً كبيرةً جداً .
من صفات هذه الزوجة الطاهرة ، على صغر سنها ، أنّها كانت ناميةً ذلك النمو السريع ، العوام الآن يعبرون عن هذه الظاهرة بقولهم : قطعتها كبيرة . فالعبرة بالمرأة في قطعتها لا في عمرها ، كانت على صغر سنِّها ناميةً ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب ، وكانت متوقِّدة الذهن ، نيِّرة الفكر ، شديدة الملاحظة ، وهي وإن كانت صغيرة السن لكنّها كبيرة العقل .
نحن تعلَّمنا في الجامعة أن للإنسان عمرين ؛ عمر زمني ، وعمر عقلي ، وقد يبتعدان عن بعضهما ، قد تجد إنساناً عمره الزمني عشر سنوات ، أما عمره العقلي فخمسة عشر عاماً ، وقد تجد إنساناً عمره الزمني عشرون عاماً ؛ وعمره العقلي خمسة عشر عاماً ، فالعقل لا ينمو مع نمو الجسم بل له نموّه الخاص ، فالسيدة عائشة رضي الله عنها على صغر سنها نمت نمواً سريعاً وعلى صغر سنها كانت متوقِّدة الذهن ، نيرة الفكر ، شديدة الملاحظة ، فهي وإن كانت صغيرة السن لكنها كبيرة العقل ، أي لها دور في الدعوة الاًسلامية .
تروي كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج امرأةً فيما بعد ، قال لها ضرَّاتها : " إذا التقيت بالنبي فقولي له : أعوذ بالله منك " . فلما دخل عليها النبي قالت : " أعوذ بالله منك ". فماذا قال لها ؟ :
" الْحَقِي بِأَهْلِكِ" *
( من صحيح البخاري : عن " السيدة عائشة " )
رفضها ، هل يعقل أن تكون زوجة رسول الله بهذا الإدراك ؟ فهي مبلِّغة عن رسول الله ، تبلِّغ عنه الشرع ، شيءٌ خطيرٌ جداً أن تكون زوجة النبي عليه الصلاة والسلام محدودة التفكير ، لأنها تنقل عنه ، وربما نقلت عنه الشيء الذي ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً هناك حكمةٌ إلهيةٌ بالغة من أن الله سبحانه وتعالى هيَّأ لرسوله الكريم هذه الزوجة العاقلة، المتقدة في الذهن والذكاء والفطنة ، كثيرة الملاحظة ، ذات النفسيَّة الطيِّبة .
يقولون : " ولو لم تكن السيدة عائشة رضي الله عنها في تلك السن التي صحبت بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وهي السن التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالاً ، وأشد استعداداً لتلقي العلم ، لما تهيَّأ لها ذلك " .
فالعلم شيءٌ أساسيٌ في حياة المؤمن ، والنبي عليه الصلاة والسلام كل شيءٍ يقوله ينبغي أن ينقل عنه ، وأفضل امرأةٍ تنقل عنه زوجته ، إذاً فلنطمئن أنّ الله سبحانه وتعالى اختارها على علمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
قال الإمام الزُهري : " لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين ، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل " .
والحقيقة أن الشيء الذي يدهش العقول ، أو الشيء الذي يلفت النظر أن تكون المرأة على درجة عالية جداً من الفهم والعلم والفقه ، فالمرأة عند الناس امرأة ، لكن المرأة التي تتمتَّع بعقلٍ راجح ، وإدراكٍ عميق ، وفهمٍ دقيق ، وحفظٍ شديد ؛ هذه امرأةٌ نادرةٌ جداً ، وامرأةٌ مؤهَّلةٌ لأن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
عطاء بن أبي رباح يقول : " كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة " .
والحقيقة مِن مُتَع الحياة أن تعيش مع الذكي ، ومن البلاء الشديد أن تعيش مع المحدود ـ محدود التفكير ـ تكاد تخرج من جلدك ، سمعتم مرةً مني أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه بينما كان يلقي درساً على إخوانه حول صلاة الفجر ، وفيما قرأت كانت رجله تؤلمه ، وبينه وبين تلاميذه مُباسطة، ليس هناك كلفة ، ولعذرٍ فيه كان يمد رجله ، وتعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام ما رؤي ماداً رجليه قط بين أصحابه ـ أما إذا وجد عذر فموضوع ثانٍ ـ دخل رجل طويل القامة ، عريض المنكبين ، حسن الهيئة ، يرتدي عمامةً وجُبةً ، وجلس في مجلس هذا الإمام العظيم .
فأبو حنيفة رضي الله عنه ظنَّه عالماً كبيراً ، فاستحيا منه ورفع رجله ، أي أن بينه وبين إخوانه ليس هناك تكليف ، أما هذا فضيف غريب لعلَّه ينتقده ، فلما انتهى الدرس سأله هذا الرجل: يا إمام كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ؟ فقال له : " عندئذٍ يمد أبو حنيفة رجله ".
فأن يعيش الإنسان مع شخص محدود التفكير يخرج من جلده أحياناً ، والحقيقة من سعادة الإنسان أن يكون الذين حوله في مستواه ، يفهمون عليه.
لذلك فأنا أرى أن من إكرام الله لرسول الله أنه قيَّض له أصحاباًعلى مستوى عالٍ من الفطنة، والوفاء ، والذكاء ، والحُب ، والتضحية ، والإخلاص ، وكلَّما ارتقى مقامك عند الله هيَّأ الله لك أُناساً قريبين منك ، كلَّما ارتقى مقامك عند الله هيَّأ الله لك أُناساً يفهمون عليك ، يفهمون عليك بالإشارة ، يقدِّرون ما أنت فيه ، يعرفون قدرك حق المعرفة ، يعرفون أهدافك النبيلة .
وإذا غضب الله على عبدٍ جعل مَن حوله لا يعرفون قيمته ولا فضله، لذلك ورد في الأثر :
" أكرموا عزيز قومٍ زل ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين الجُهال " .
كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً ، وقال أبو موسى الأشعري : "ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة ، إلا وجدنا عندها فيه علماً " .
وقال مسروق : " رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأكابر يسألونها عن الفرائض " .
وقال عروة : " ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا طبٍ ولا بشعرٍ من عائشة " .
وقال أبو الزناد : " ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً " .
شاعرة ، ذات حافظة عالية جداً ، ذكية ، فطنة ، تنقل عن رسول الله أكثر من ألفي حديث.
* * *
أيها الإخوة ... أردت من هذه المقدمة أن تعلموا أن عائشة أم المؤمنين ، اختارها الله عزَّ وجل لنبيِّه الكريم ، لتكون زوجته وأمينة سرِّه وراويةً عنه .
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام عقد عليها وهو في مكة قبل الهجرة ، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، واستقبله الأنصار ، وهم محيطون به ، متقلِّدي سيوفهم ، وهنا حدِّث ولا حرج عن سرور أهل المدينة ، فكان يوم تحوِّله إليهم يوماً سعيداً ، لم ُيرَوْا فرحين فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
فكلكم تحضرون عقود قران ، وموالد بمناسبة ذكرى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ونشيد طلع البدر علينا يمكن ألا يكون واحد من الإخوة الحاضرين إلّا سمعه مئات المرَّات إن لم نقل أكثر .
والعبد الفقير لما كنت في المدينة المنورة في إحدى العُمرات ، وقفت قبالة مسجد قِباء ، فهناك ميدان في وسطه نُصب تذكاري ، مكتوب عليه بكرة جميلة طلع البدر علينا ، أيْ في هذا المكان ـ في مكان مسجد قباء ، وقباء في ظاهر المدينة ـ خرج الأنصار من المدينة ، ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وفي هذا المكان بالذات أنشدوا : طلع البدر علينا . والله أيها الإخوة كأنني أسمع هذا النشيد لأول مرة ، وله وقعٌ في هذا المكان لا يوصف ، في المكان الذي وقف فيه الأنصار ينتظرون النبي عليه الصلاة والسلام ، وحينما أطل عليهم قالوا :
طلع البدر علينا من ثنيِّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المُطاع
* * *
وفي الصحيحين عن أبي بكرٍ رضي الله عنه في حديث الهجرة ، قال : " وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت ، والغِلمان والخدم يقولون : الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد ، الله أكبر جاء رسول الله ، وكان الأنصار قد اجتمعوا فمشوا حول ناقته صلى الله عليه وسلَّم ، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شُحَّاً على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعظيماً له ، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار دعوه إلى المنزل ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
" دعوها فإنها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله " .
( من كشف الخفاء : عن " ابن الزبير " )
إخواننا الكرام ... كان عليه الصلاة والسلام حكيماً إلى درجةٍ كبيرة جداً ، لأنه لو اختـار البيت بنفسه لكان ، كل إنسان لم يختر بيته ليكون نُزلاً لرسول الله يتألَّم ، لذلك ترك الأمر لله عزَّ وجل ، قال : " دعوها فإنها مأمورة ". حتى يطيِّب قلب أصحابه جميعاً فما اختار هو البيت ، بل قال "دعوها فإنها مأمورة " ، ونزلت في بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
ولقد كنت في تركيا قبل سنة تقريباً ، وصلَّيت الجمعة في مسجد أبي أيوب الأنصاري في مدينة استنبول ، هذا الصحابي الجليل أين مات ؟ مات في أقصى الشمال ، وله مسجدٌ والله منوَّر تشعر فيه بروحانية عجيبة، فلما انتهت الصلاة زرت مقام هذا الصحابي الجليل وقرأت الفاتحة ، وتأثرت تأثراً كبيراً ، ولكن الذي أدهشني أن كل زوَّار المقام حينما يخرجون من هذا المقام لا يديرون ظهورهم إليه ، يرجعون القهقرى تأدُّباً معه ، فهذا الصحابي الجليل الذي أكرمه الله بأن يكون مُضيف النبي عليه الصلاة والسلام ، له قصصٌ رائعةٌ جداً .
فهو لم يستطع أن ينام في الدور الذي فوق رسول الله ، فبيته طابقان، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطابق الأرضي أسهل لزوَّاره ومن يأتيه ، وسمح لأبي أيوب أن ينام في الطابق العلوي ، من شدة أدب هذا الصحابي الجليل لم يستطع أن ينام في الطابق الذي فوق رسول الله ، وكان في حرجٍ شديد ، ومرةً قدر الماء انكسر ، فخاف أن ينزل على النبي قطرةُ ماء ، فجاء باللحاف الذي لا يملك غيره في الشتاء ، فوضعه فوق الماء ، كي يمنع نزول الماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي حظي بضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
ولما استقر عليه الصلاة والسلام في المدينة ، أين كانت عائشة ؟ كانت في مكة ، ولما يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يجب أن نعلم أيها الإخوة علماً دقيقاً ، أن العقد على عائشة سبق الدخول بسنوات ، فإذا قلنا صغيرة ، وبينها وبين النبي فرقٌ كبير ، فإن العقد شيء والدخول شيءٌ آخر ، عقد عليها بمكة ، ولم يدخل بها إلا في المدينة ، ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة ، أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن خلَّف من أهله ، وأرسل معهما عبد الله بن أريقط يدلهما على الطريق ، فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة زوجِه، وأم أيمن حاضنته في صغره ، وابنها أسامة بن زيد ، وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع ، وخرج مع الجميع عبد الله بن أبي بكر بأم عائشة زوج أبيه ، وأختيه عائشة وأسماء زوج الزبير بن العوام ، وكانت حاملاً بابنها عبد الله بن الزبير ، وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة ، وصحبهم من مكة طلحة بن عُبيد الله .
وبعد أن استقر النبي بالمدينة ، وانتهى ضجيج الهجرة ، وانتهت المطاردة ، أرسل هؤلاء الصحابة ليأتوا بأهله ؛ أتوا بفاطمة ، وأم كلثوم ، وسودة ، وأم أيمن ، وابنها أسامة بن زيد ، أما زينب فمنعها زوجها من الهجرة .
والنبي عليه الصلاة والسلام يهيِّئ الدور لزوجته سودة ولزوجته عائشة ليستقبل فيها أهله .
وفي أيامنا هذه تجد شخصاً عادياً جداً يسألك عن مكان سكنى ابنته المخطوبة ، أين ستسكنها ؟ . غرفةٌ صغيرةٌ جداً ملحقةٌ بالمسجد هذه الغرفة بيت عائشة ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكانت هذه الغرفة الصغيرة التي لا تتسع لصلاته ونوم زوجته معاً ، إما أن يصلي فتنزاح جانباً ، وإما أن يناما معاً ، أما أن يصلي هو وتنام هي فالغرفة لا تتسع لهما ، هذا بيت رسول الله .
طبعاً حينما حضر أهل النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ؛ ابنته فاطمة ، وأم كلثوم ، وزوجته عائشة وأمها ، ومن يصبحهنّ فهذا الشيء يبعث في النفس السرور طبعاً ، لأن ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام :
" المرء حيث أهله والمرء حيث رحله " .
وصلت هذه السيدة الجليلة إلى المدينة مع أمها أم رومان ، وأختها أسماء ، وأخيها عبد الله، واستقروا في دار الوالد الصديق رضي الله عنه، ولم تمضِ أشهر معدودات ـ بعد أشهر معدودة ـ حتى تكلَّم الصديق رضي الله عنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام في إتمام الزواج الذي عقده بمكة .
فالنبي عقد بمكة قبل سنوات من الهجرة ، وبعد الهجرة بأمد طويل استقدم أهله ، وبعد هذا الاستقدام بقيت في بيت أبيها ، فلما كلَّم الصديق رسول الله في شأن إتمام الزواج ، سارع النبي عليه الصلاة والسلام ، وسارعت نساء الأنصار إلى منزل الصديق لتهيئة هذه العروس الشابَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أجمل موقف وقفته أم السيدة عائشة رضي الله عنها ، حينما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ومعها ابنتها العروس السيدة عائشة بعد أن هُيئت له ، دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في دار أبي بكر وقالت : " يا رسول الله هؤلاء أهلك ، بارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك " . وهذا أجمل دعاءٍ يُلقى في عقود القِران : " بارك الله لك فيها وبارك لها فيك " .
والزواج المبارك هو الذي يكون مبنياً على طاعة الله ، وعلى تطبيق منهج رسول الله ، والله عزَّ وجل يلقي الحب بين الزوجين ، والألفة والمودَّة ، وينجب من هذين الزوجين الذرِّية الطيبة الصالحة ، فالزواج شيء جميل جداً ، والزواج له ثمرة ؛ وثمرته أولاد أبرار ، والإنسان حينما يموت ينقطع عمله ، أما إن كان له ولد صالح ، فهذا الولد الصالح ينفع الناس من بعده ، وكل أعماله في صحيفة أبيه .
البارحة زارني صديقان ، أحد الصديقين له ابنٌ طالبُ علمٍ شرعي ، متفتِّح ، يدعو إلى الله عزَّ وجل ، فقلت له : إن هذا الابن أثمن شيءٍ في الدنيا بالنسبة لأبيه .
* * *
أيها الإخوة ... وتنقضي ليلة الزفاف المباركة في دار أبي بكرٍ رضي الله عنه ، ثم يتحوَّل النبي عليه الصلاة والسلام بأهله إلى البيت الجديد ، ما كان هذا البيت سوى حجرةٍ من الحُجرات التي شُيِّدت حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، من اللبن وسعف النخيل ، وقد فُرش بحصير ، ووضع فيه فراشٌ ، وبعض ملحقاته ، وأوانٍ بسيطة للشراب والطعام ، وهذا كلُّ بيت رسول الله .
غرفة سقفها من سعف النخيل ، جدرانها من اللبن ، فيها فراش ، وفيها بعض الأدوات البسيطة جداً ، وفي هذا البيت المتواضع بدأت حياة العروس الكريمة عائشة رضي الله عنها ، وبدأت الحياة الزوجية الحافلة بالمكرُمات والخيرات ، مكرُمات النبوة وخيرات الرسالة .
وأنا أعلم أن هناك بيوتاً فخمةً جداً لكن لا سعادة فيها ، وهناك بيوت متواضعة جداً فيها سعادة زوجية تامة ، السعادة الزوجية أساسها طاعة الله ، والشقاء الزوجي أساسه معصية الله عزَّ وجل .
هذه العروس الصغيرة على صغر سنها إلا أنها احتلَّت مكانها المرموق في بيت النبوة ، وحياة رسول الله ، وتاريخ الدعوة ، والتاريخ الإسلامي .
الحقيقة التي لا ريب فيها أنه يُشهد لهذه الزوجة أنها كانت في أعلى مستوى من العلـم ، والمعرفة في شؤون الدين ، وعلى جانبٍ عظيم من الدراية لأسرار الأحكام الشرعية ، ولها منزلة رفيعة من التقوى والورع ، بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية ، لذلك فاعلم أخي الكريم :
" الدنيا كلها متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " .
( من الجامع الصغير : عن " ابن عمرو " )
التي ..
" إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك ، وإذا أمرتها أطاعتك".
( من الجامع الصغير : عن " عبد الله بن سلام " )
وحينما قال الله عز وجل :
(( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) ( سورة البقرة )
قال العلماء : " حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة " .
وأنا أرجو الله سبحانه وتعالى لكل إخوتنا الشباب ، الذين لم يقدموا على الزواج بعد ، فماذا يمنعهم أن يكون دعاؤهم لله عزَّ وجل : اللهمَّ ارزقنا زوجة صالحة . الزوجة الصالحة أحد أسباب النجاح في الحياة ، فحينما تطلب امرأة صالحة ، تتوافر فيها الشروط ، تكون قد حققت أحد جوانب السعادة في حياتك الدنيا .
في درسٍ آخر إن شاء الله ننتقل إلى هذه الزوجة الطاهرة مع ضرَّاتها ـ نساء النبي ـ عليهن جميعاً رضوان الله عزَّ وجل ، وكيف أن الحياة الزوجية جزءٌ من حياة الإنسان الطيبة ..
(( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))
( سورة النحل : من آية " 97 " )
والمرأة الصالحة جزءٌ من الحياة الطيبة .
والحمد لله رب العالمين
تحياتي
أحلام فتاة ملتزمة