في الحضارة السومرية .. حتى الألهه كانت تعلن الإضراب عن
العمل ..؟
يطالع القارئ العزيز عرضاً مختصراً جداً لنقاط
محددة في تاريخ الحضارة السومرية القديمة ، التي قدمت مع الحضارة المصرية ،
والإغريقية ، الجذور الحقيقية لما وصل الينا في عصرنا الحالي من ديانات (
سماوية ) ، لم نشأ التعليق على الأفكار المطروحة ، بهدف إعطاء فرصة للقارئ
لإعمال العقل النقدي المقارن ما بين الماضي والحاضر . وهناك مادة لاحقة
تستكمل هذا العرض السريع وصولاً الى الإستنتاجات الرئيسية بعد ذلك ، قبل
العودة الى الديانة الموسوية وإستنساخاتها الحالية . ولمن أراد قراءة
المزيد حول ذلك نحيلة الى أحد المصادر الهامة ، وهو: المعتقدات الدينية لدى
الشعوب وهو مجلد إنجليزي ضخم . هناك فصول مترجمة من الكتاب بعنوان عالم
المعرفه صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في الكويت العام
1978 . وعن هذا المجلد تم عرض هذه المقتطفات .
تقدم لنا الحضارات
المبكرة في الشرق الادنى القديم فرصة فريدة لدراسة نشأة الدين وتطوره في
منطقة ذات اجناس بشرية وثقافات مختلطة ، ظهرت فيها فيما بعد الديانات (
التوحيدية ) الثلاث . التي تدين جميعها الى المراحل المبكرة للفكر الديني
في بلاد ما بين النهرين . موطن السومريين ، والبابليين ، والآشوريين . ولقد
كشف علماء الأثار عن بقايا أقدم المستوطنات القروية في ( جيرمو ، في
العراق ، وكاتل هييوك في تركيا ، وأريحا في فلسطين ) التي كانت بالفعل
موجودة في الالف السابع او السادس قبل الميلاد . وفي الألف الرابع تعلمت
مجموعات كبيرة من الناس في جنوب بلاد ما بين النهرين التحكم في مياه دجلة
والفرات ، وري السهول ، وهذا التحكم سهل إمكانية الإستقرار على ضفاف
الأنهار والقنوات الرئيسية .
ومنذ عصور ما قبل التاريخ ، كان الإنسان
نتيجه جهله وخوفه مؤمن بوجود قوى روحية يعتمد عليها وجوده. وتشهد على ذلك
بقايا المعابد والهياكل ، وأماكن التضحية والقرابين ، والتماثيل الرمزية
الصغيرة ، وتماثيل الألهة وعادات الدفن . ومع ظهور الكتابة التي وجدت أولاً
في ( اورك ) حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، ظهر مصدر جديد من الشواهد التي
زودتنا بما يقرب من نصف مليون وثيقة مكتوبة على الطين ، وكذلك ألواح
إستخدمت العلامات المسمارية مما جعل من الممكن تتبع تطورهم الفكري حتى وصول
الغزاة من الفرس والاغريق الى هذه البلاد .
لقد طور السومريون خلال
الألف الثالثة قبل الميلاد ، وجهات نظر كان لها تأثيرها الهائل على
معاصريهم وعلى خلفائهم من البابليين ، والأشوريين ، والحثيين ، والعيلاميين
، وسكان فلسطين من الشعوب المجاورة الذين إعتنقوا معتقداتهم الأساسية .
وجوهره أن الكون يتسم بالنظام ، وأن كل شئ هو إنعكاس لتجلي العقل الألهي
ولنشاط خارق للطبيعة .
والعناصر الرئيسية التي يتألف منها الكون عند
السومريين هي : السماء ( آن ) والآرض ( كي ) . وتبدو الألهة الآخيرة أشبه
بقرص الغلاف الجوي ( ليل ) أو الروح. وهم يعتقدون أن البحر الذي كان في
البدء هو السبب الأول الذي إنبثقت عنه الكون المخلوق ، وتشكلت فيه الشمس
والقمر والكواكب . وكان يتحرك في طريقة الإلهي المرسوم . وما يحدث في
السماء يحدث على الارض . ثم ظهرت النباتات والحيوانات والحياة البشرية .
أما
الكائنات التي تعلو على الإنسان ، والموجودات غير المنظورة التي تتحكم
بالكون الكبير وتتجسد فيه ، فكانت توصف بصفات بشرية . من ذلك أنها كانت
كالرجال والنساء لها إنفعالاتها الطاغية وجوانب ضعفها . كما أنها كانت تأكل
وتشرب وتتزوج وتنجب أطفالاً وتقتني خدماً ومنازل ، لكنها على خلاف البشر
فهي خالدة . ( فالآلهة عندما خلقت البشر إحتفظت لهم بالموت ،وأبقت الحياة
في يدها ) ولقد إعتقد السومريون ، وفقاً لما تقوله عقيدتهم الدينية ، وقد
بقي قائماً في نصوص مفصلة منذ فجر العصر البابلي القديم حوالي 1900 قبل
الميلاد .أن لكل موجود كوني قواعده وقونينه الخاصة التي تجعله يستمر في
الوجود الى الأبد . وفقاً للخطة التي وضعها الإله الذي خلقه ، وهي تسمى
بالسومرية ( مه ) وتشمل ( السيادة الألوهية ، التاج ، العرش ، الملك ،
الكهانة ، الحقيقة ، الهبوط الى العالم السفلي والصعود منه ، الفيضان ،
الأسلحة ، المعاشرة الجنسية ، القانون ، الغنى ، الموسيقى ، القوة ، ..الخ )
غير أن هذه التناقضات الظاهرة في تعدد الألهة لم يكن يثير قلقاً عند رجال
الدين السومريين ، وعندما حل عصر ( فارة ) حوالي 2500 قبل الميلاد وضع
السومريون مئات الأسماء المقدسة ، وصنفوا كلاً منها على أنه إله أو آلهه
خاصية مميزة يجمعونها في ( أسرة ) تلتف حول إله قوي بوصفها زوجات أو أبناء
أو موظفين أو خدماً
الحاكم الأسمى : كان ( آن . و . ) إله السماء في
الأصل وهو المهتم بشؤون الحكم في مجمع الآلهة السوري ،ويرمز له بغطاء الرأس
ذي القرون علامة على ألوهيته .ومعبده الرئيسي في أوروك . لكن عندما إنهزمت
مدينة نيبور المجاورة لمدينة أوروك أصبح إلهها ( إنليل ) الليل سيد الغلاف
الجوي والرياح ، وأصبح معبده الرئيسي في ( إكور ) وإنليل هو الجد الاول
الذي يعزي اليه خلق الشمس والقمر والنباتات الارضية والادوات الضرورية التي
يسيطر بها الانسان على الطبيعة . ، رغم أن نصوص أخرى تقول أن ( إنليل ) من
نسل زوجين إلهين وهما ( أنكى ) ونينكي ) سيد الارض برمتها . وعلى الرغم من
أن إنليل يرتبط بمدينة نيبور ، فإنه يعد الأله الأسمى لكل سومر ، وهو يمسك
بيده (الألواح التي سطرت فيها أقدار البشرجميعاً ) . وقد ظلت مدينة نيبور
مركزاً للحج طوال التاريخ القديم ، رغم أن الإله ( مردوخ ) إستولى في
أواسط الألف الثانية على مكانة ( إنليل ) ووظيفته داخل بابل ، وفي آشور
كانت ( نيليل ) زوجة إنليل ورفيقته في ذلك الوقت متحدة مع الألهة العظمى (
إنين ) السومرية التي تسمى شعبياً ( إينانا ) سيدة السماء وهي عشتار عند
البابليين . وثالث قادة مجمع الآلهه ( رغم أنه لم يكن عند السومريين تصور
عن تثليث الألهه ) هو إنكي إله العالم السفلي . المعروف أيضاً باسم ( أيا )
إله الأعماق فقد حكم الماء وتعزى اليه الحكمة كلها . وفي مقابل إستعلاء (
أنو و إنليل ) نجد أن ( أيا ) أنه علم اإنسان ما لم يعلم من جميع الفنون
والمعارف الارضية . وكانت مدينة ( أريدو ) على الخليج العربي هي المركز
الرئيسي لعبادته . لكن ابن مردوخ هو الذي عهد اليه برئاسة مجمع الألهه كله
عند البابليين . ويرجع صعود نجم مردوخ الى مدرسة دينية ألفت التراتيل
والصلوات لتمجيده ، ثم أضافت الفصل الثاني عشر والأخير من ملحمة الخلق (
الكلاسيكية ) لكي تجمع له كافة النعوت والألقاب التي يوصف بها الألهه (
الخمسون ) الرئيسيون جميعاً . وهكذا نجد في قوائم الألهه إلهاً مثل ( حدد )
يقال أنه مردوخ ،وإله القمر الذي هو أيضاً مردوخ ، لكن عملية التوحيد هذه
لم تنجح لأن الالهه المحلية كان لا يزال لها أنصار رغم توقيرهم لمردوخ
،بقدر توقيرهم ل ( إنليل ) على أنه ( بعل ) أو السيد ، وقد قامت هذه الحركة
بزيادة تبسيط مجمع الألهه وهناك إلهه رابعة هي ( ننخرساج ) أو نينماج
السيدة المبجلة وهي ترتبط بالفكر السومري ( بانليل ) و( أيا ) في خلق الجنس
البشري .
ظهرت الإجابة حول اصل العالم والخلق في أساطير متعددة ومختلفة
إشتركت فيها الألهه . فقد كان مولد القمرموضوع قصيدة ، في حين أن ملحمة (
الأينوما إليش ) هي واحدة من ملاحم الخلق عند البابليين . وتروي النصوص
السومرية اصل الإنسان أن ( أنو و إنليل ) سوياً متعاونين مع الأم ( ننخرساج
) صنعا معاً الإنسان . وفي رواية أخرى نجد أن ( أيا ) والألهه ( أوروو )
خلقا الإنسان من الطين بقوة الكلمة الألهية . وتصف الملحمة البابلية أول
إضراب في التاريخ ، حين تصوره على النحو التالي عندما جعل ( إنليل ) الألهة
الصغرى تحفر القنوات وتعمل من أجل إزدهار الزراعة ، التي يعتمد عليها غذاء
الألهه أنفسهم ، قامت الألهة الصغرى بإضراب عن العمل والامتناع عن تنفيذ
أوامر الأله الأكبر . فوصلت شكواهم الى الى إنو إله السماء فخلقوا بشر من
طين ودم بفعل من أفعال الميلاد مستخدمين الألهة الأم التي تسمى ( ماما )
وكانت مهمة البشر هي خدمة الألهة .
وهناك أسطورة أخرى تتحدث عن أرض
الأحياء الطاهرة المشرقة أرض دلمون ( البحرين حالياً ) : ها هنا كل شئ في
سلام فلا مرض ولا شيخوخة . وعندما ظهر إله الشمس ليستخرج الماء من الينابيع
، أصبح المكان جنة حقيقية ومرتعاً للألهه الخالدين. ثم تقوم ( ننخرساج )
بخلق ثمانية أنواع من النباتات ، وعندما أكلها أنكي كلها لعنته الألهه ،
لكنها إقتنعت في نهاية الأمر بخلق ثمانية آلهه لعلاجة ، كل إله يختص بعلاج
أحد أعضاء ( أنكي ) العليلة . وقد خلقت الآلهه هؤلاءالإلهات بأن وضعتهن في
بغير ألم وإحداهن هي ( نينتي ) وتعني سيدة الضلع وهي مرادفة لخلق حواء من
ضلع آدم على نحو ما جاء في سفر التكوين .
وينعكس أيضاً التمرد على البشر
ففي قصة البستاني ( شوكا ليتودا ) الذي إرتكب خطيئة قاتلة عندما أوقع (
أنانا ) وهي إله في الغواية . وطبقاً لما جاء في ملحمة ( أتراحسيس ) فقد
إمتنع الناس عن آداء أعمالهم ( إضراب ) على نحو ما فعلت الألهه الصغرى
وواجهوا غضب الإله ( إنليل ) لأن الخروج عن العمل الألهي إضافة الى الضجيج
الذي أحدثة تكاثر البشر حرم ( إنليل ) من النوم فاراد حل المشكلة فسلط
عليهم الطاعون والمجاعة والجفاف عقاب لهم ، غير أن تدخل الأله ( أنكى ) أدى
الى تخفيف العقوبة على البشر .
تصور ملحمتا اتراحسيس وجلجامش الطوفان
على أنه عقاب أنزلته الألهه بالجنس البشري . وقد ظفر البطل وهو الإنسان في
كل ملحمة منهما بالخلود ، وبقي بفضل ما قدمه له الأله ( إنكي ) من تحذيرات
أو الأله ( أيا ) من مساعدة عن طريق بناء سفينة تهرب عليها عائلات البشر
والحيوانات . ثم كيف إستقرت سفينته على جبل ( نصير ) بعد أن إختبر إنحسار
الماء بأن أطلق أنواعاً مختلفة من الطيور . وقد غضب الأله إنليل لأن
الإنسان إستطاع الهروب من الدمار ، ثم أقنعته الألهه بعد جهد أن يهب
الإنسان صفة الخلود . لكن في الإختبارات التي جرت وفقاً لما تروية ملحمة
جلجامش أن الإنسان سقط في الإمتحان فلم يستطع أن يظل مستيقظاً سبعة أيام
متتالية ، وأن يحافظ على نبتة الحياة إذا ما حصل عليهامرة واحدة .
تقول
غالبية النصوص السومرية أن دور الملك الرسمي في العبادة هو، إنه مثل الألهه
على الارض ينوب عنها ، فقد منحته الألهه السلطة لكي يقيم العدل ويدافع عن
الفقير وعن الضعيف في مواجهة القوى ، وان يكون نصيراً لليتامى والارامل .
وقد
تداولت كافة الأجيال طرائق الحكم على قاعدة النصوص السومرية التي تقول أن
سلامة الملك ، تقوم على أساس ( سلامة الجماعة ) ، ولهذا فإنه تتخذ إجراءات
صارمة لضمان ذلك كما أن ضمان إستمرار ألإنجاب يجعل الملك بوصفة ( خليفة )
ديموزي يعيد ممارسة طقوس الزواج مرة واحدة أو أكثر في عهده ، أما دور
الألهه فيعهد الى كهانة منتقاه . التي تحضر وتشرف على أشكال العبادة .
وتحفل المزامير السومرية والأكادية بتراتيل جميلة موجهة الى الأله الشفيعة (
لاما ) التي تأخذ بيد المتعبد الى حفرة الملك الجالس على عرشه ، وكذلك
إبتهال الرواح الحارسة ( شدو ) و ( لاماسو ) لكن من الواضح أن المسؤولية
كانت فردية في العبادة .
هنا نقدم النموذج التالي لتراتيل سومرية :
(
إعبد إلهك كل يوم ، وقدم له القرابين ، والصلوات .
التي تتم على أكمل
وجهه مع تقديم البخور ، قدم قربانك طائعاً لإلهك ، لأن ذلك يتناسب مع
الآلهه . قدم لهم الصلاة والضراعة والسجود كل يوم ،
وسوف تثاب على ما
تفعل.
عندئذ سيكون بينك وبين الله اتصال كامل ، إن التبجيل يولد الحظوة ،
والقربان يطيل الحياة ، والصلاة تكفر عن الذنب ) من كتاب نصائح الحكمة –
135 – 145 .
ويستطيع المتعبد الثري ، بدلاً من القيام بنفسه بالصلاة
والنواح ، أن يودع المعبد شيئاً مناسباً لتذكره بالطلب أو لتشكره على نعمة
أو على هيئة رسائل توضع في المعبد .أما الصلاة فكانت تتضمن عمليات الركوع
والسجود ، ورفع اليدين معاً نحو السماء أو وضع يد واحدة أمام الفم على أن
تكون راحتها تجاه الوجه . وتشير بعض الأواح أن عدد الصلوات اليومية كانت
ثلاثة ، وفي أحيان أخرى كانت صلوات خمس يومية .
للموضوع صلة في حلقة
اخرى[b] .[/b]